الأربعاء، 4 فبراير 2009

القط وقطعة اللحم

كثيرون هم، الذين طرحوا هذا السؤال: لماذا يدخل أحدهم صفر اليدين تقريبا، إلى إحدى مسؤوليات الشأن العام في بلادنا، ويقضي بضع سنوات، تُحسب على أصابع اليد الواحدة، ثم يُغادرها، وقد أصبح من الأثرياء على قدر عزيمته في الاغتراف؟ هل يتم الأمر ببساطة شديدة، حينما يجد المسؤول نفسه، غارقا في اعتمادات مالية ضخمة، لم يسبق أن وقعت عليها عيناه، ويكون وصيا على صرفها، فيما نُدرت له، نظريا على الأقل، ثم يشرع في نقلها من خزائن المؤسسة إلى خزينة البيت؟ يصعب هضم شرح للعملية، على هذا النحو التبسيطي، فعلى كل حال، توجد ضِمن مؤسسات البلاد، مفتشيات لتدقيق الحسابات، كما أن أخبار الاختلاسات توجد في الغالب، أعين مُترصدة لها، لتكتشف أمورا عديدة، ترتبط بتجاوزات نهب الأموال العمومية، كما أن هناك حسابات، لمؤسسات الدولة، يتم اجتياز "غربالاتها" قبل أن يتم إقفال حسابات السنة المالية، ناهيك أن البرلمان يُناقش الاعتمادات، وأوجه صرفها، قبل أن يتم الشروع في إنفاقها. وأخيرا، وليس آخرا، هناك المجلس الأعلى للحسابات، الذي يُفترض أنه يُدقق في مسارات الأموال العمومية، عبر مختلف الأبهاء التي تعبرها في مؤسسات الدولة.

لكن رغم هذا وذاك، من الاحتياطات التي وفرها المُشرع، نجد أن عمليات رصد نهب المال العام، لم تتوقف أبدا، بدليل أن أغلب المسؤولين، الذين يتعاقبون على تسيير دفة الأمور، في مؤسسات الدولة، الوزارية والمالية والتدبيرية، يأتون أول مرة على حال اجتماعية مُتواضعة، ثم يُغادرون وقد دخلوا نادي أصحاب الملايير، من أوسع الأبواب عندنا، أي المسؤولية على إحدى مؤسسات الشأن العام، فكيف يتسنى لهم ذلك يا تُرى؟

ثمة حيثيات، تقتضي التخلي عن نوع التحليل التقني، أي مناقشة الآليات القانونية والإدارية، على عِلاَّتها، وتقليب صفحات الدفتر السياسي في الموضوع. كيف ذلك؟

للجواب على هذا السؤال يجدر، إتباعه بسؤال آخر هو: هل نتوفر في المغرب، على أساليب رذع سياسي، لحماية المال العام، من جشع الجشعين، وتسلط المتسلطين؟ ففي بلدان متقدمة حقا، في هذا المجال، نجد إعمالا للوصفة الاتهامية المعروفة، التي تلخصها هذه العبارة: من أين لك هذا؟ وهي تعني ضمنا، أن كبار مسؤولي الدولة، كما صِغارهم، ممن يتولون إحدى مهام صرف المال العام، مُطالبين قبل تولي مسؤولياتهم، بالكشف عن سجل ممتلكاتهم، حتى آخر سنتيم، قبل أن يُباشروا مهامهم، لمقارنتها عند المغادرة، بما لديهم وبالتالي، الحكم فيما إذا كانوا قد مدوا أيديهم، إلى الأموال العمومية، التي وضعها المجتمع بين أيديهم، لتصريف الشؤون العامة، وِفق القانون المنظم. فلماذا هذا الاحتياط "الراديكالي" من خلال الوصفة الاتهامية المذكورة؟ أليست هناك قوانين ضبط، في المجتمعات المتقدمة؟ ألا تتوفر على مُفتشيات تقنية متخصصة، لتدقيق الحسابات؟ بلى، ولكن لتطمإن قلوبهم، كيف؟

بالرغم من كل الاحتياطات التقنية والقانونية، التي تزودت بها آليات التفتيش المالي، في المجتمعات المُتقدمة، إلا أنه ظلت هناك العديد من الثغرات غير المُباشرة، التي تُغري الكثير من المسؤولين، عبر مجتمعات العالم، بالاغتراف من المال العام العميم، وهو وضع بشري أزلي، يُشبه وضع قط جائع، أو متوسط الشبع، أو حتى شبعانا، أمام قطعة لحم خروف دسمة، وترك الحرية له، في الاختيار بين أكل القطعة الشهية، أو الزهد فيها، فماذا تراه فاعلا في نظركم؟

لِمنح هذا الكلام، شكلا ومضمونا، يستقيمان وجدية الموضوع، لا بد من فحص بعض آليات العمل المؤسساتي، المُرتبطة بالشأن العام، ومُقابلتها مع عدد من الاعتبارات السياسية والاجتماعية المُوازية، وهنا سنحصر نماذج استدلالية، من بيئتنا السياسية والمؤسسية.

لنأخذ مثلا بعض أسماء كبار المسؤولين الذين تعاقبوا على مسؤوليات وزارية، وغيرها، فمثلا، انطلق الوزير الأول السابق المعروف "كريم العمراني" من الصفر تقريبا، حيث بدأ حياته العملية، تاجرا بسيطا لأجهزة المذياع (الراديوات) في أحد أحياء الدار البيضاء، لينتهي على رأس ثروة هائلة، بعشرات مئات الشركات، في عدد من القطاعات التجارية والخدماتية، واليوم فإنه واحد من أثرى أثرياء البلاد، ضمن ناد شديد الضيق، أما محمد الأشعري، فكان مجرد موظف بسيط، بمصلحة الطوبوغرافيا (مساعد مهندس) لا يُقفل نهاية الشهر دائما بسلام، ليتحول بعد سنوات قليلة، في منصب وزير الاتصال ثم الثقافة، إلى ثري تجري بين يديه الملايير، وبعدما لم يكن يملك ثمن سترة لائقة، أصبحت لديه ضيعات وفيلات وسيارات، أما فتح الله والعلو، ابن البقال البسيط، فمرَّ من ظروف الحاجة، في بداية حياته السياسية، لدرجة لم يكن يجد ما يُؤدي به ثمن غرفة فندق متواضع، في العاصمة النمساوية "فيينا" عند مشاركته، في مؤتمر عالمي اقتصادي، خلال بداية سنوات سبعينيات القرن الماضي، واليوم فإن فتح الله والعلو، يُعتبر واحدا من أثرى أثرياء البلاد، مما دفع البعض للقول، بغير قليل من المُبالغة، أنه يستطيع شراء حزب الاتحاد الاشتراكي ويُحفظه باسمه، نفس الشيء يُمكن أن يُقال عن خالد عليوة، الذي استبدل منصب الأستاذ الجامعي، بمصادر دخل أخرى كبيرة، يصعب حصر عائداتها، من بينها مثلا، الاشراف على تسويق منتجات إحدى شركات إنتاج العازل الطبي الدولية، ومع ذلك فإنه يقول هل من مزيد؟ بالنظر إلى سعيه الحثيث للاستفادة من ثغرات "قانون" تدبير الامتيازات، الذي طالما انتقده من قبل، وذلك على سبيل المثال، من خلال سعيه منذ بضعة أشهر، لحيازة شقة فاخرة بالبيضاء، يُشرف عليها، البنك العقاري والسياحي، الذي يتولى خالد عليوة مسؤولية إدارته، أما امحند لعنصر، فجاء من قرية نائية، بمنطقة "مرموشة" في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهو لا يملك ثمن كراء شقة في العاصمة، ليصبح ثريا، تُعد عقاراته بالمئات، في مختلف أنحاء المغرب والخارج... واللائحة طويييييلة.

فهل يُمكن القول، أن الشخصيات السياسية المغربية، التي تناوبت على مختلف المسؤوليات الوزارية، وتحولت من حال شظف العيش، إلى بحبوحته، نهبت المال العام، بطريقة مُباشرة، كما يفعل اللصوص المُحترفون؟ يصعب الجزم بذلك، نظرا للصعوبات المنهجية، التي تعترض مثل هذا الاتهام المُباشر، غير أنه بالبحث في كثير من المعطيات، يتبين أن أغلب مصادر اغتناء المسؤولين المغاربة، هي بالتحديد، الفرص التي يُتيحها المنصب الحكومي، فمثلا، حينما كان "عز الدين العراقي" وزيرا للتعليم، مستهل سنوات سبعينيات القرن الماضي، أنشأ بالموازاة مع سياسة تعميم التعليم ( وبالتالي، الحاجة إلى مؤسسات تعليمية، من مختلف الأسلاك) شركة لصنع الطاولات المدرسية، واحتكر تموينات هذه السوق الضخمة، ليجني عائدات مالية كبيرة جدا، تُقاس بالملايير، فكان في ذلك أساس الثروة المالية الهائلة، التي راكمها، على مدى قرابة ثلاثة عقود، من تقلبه في مختلف المسؤوليات، منها منصب الوزير الأول. والشيء نفسه، يمكن أن يُقال عن عدد كبير، من كبار مسؤولي الدولة ، في مختلف القطاعات. حيث إن المسؤول الأول عن تدبير مجال مُعين، يكون هو الأقرب، إلى معرفة أسواق وأوراش المؤسسة، التي يُشرف عليها، وبالتالي تتوفر دائما الآليات "الشفافة" ظاهرا، التي تتم استمالتها في الوجهة المرغوب فيها، كأن يستفيد مثلا الابن أو الزوجة، أوباقي أفراد أسرة المسؤول، من صفقة عمومية بعشرات الملايير، وبالتالي يكون المال، المرصود لتدبير الشأن العام، أسير دائرة مُغلقة رهيبة، تخرج منها الاعتمادات المالية الضخمة، وتسير عبر سبل "مشروعة" وفي نهاية المطاف تصل، إلى الجيوب الخاصة للمسؤولين.

لكل هذه الاعتبارات وغيرها، يظل كل حديث عن تخليق الحياة العامة، وإعمال آليات المُراقبة، مجرد كلام في الهواء، في غياب طرق المُحاسبة المُباشرة، من خلال وصفة من أين لك هذا؟ ومتفرعاتها مثل: من أين لزوجتك وابنائك وأبناء عمومتك... هذا؟

وكما فهمتم، فإننا ما نزال في المغرب، أبعد ما نكون عن تطبيق هذه الآلية "الراديكالية" لحماية أموال دافعي الضرائب، أي أنا وأنت والآخرون. وهو قرار سياسي بامتياز، كفيل بالقطع، مع مرحلة طويلة من "المرونة" في تسيير الشأن العام، أسست لثقافة سياسية واجتماعية، يُعتبر فيها المرء غبيا، إذا لم يغترف من "الشكارة" العامة، حينما يجلب له "الحظ" مسؤولية ما، فيجد نفسه فجأة، في وضعية القط وقطعة اللحم الدسمة، سيما أن القاعدة الاجتماعية تجعل الفرد من بيننا، مدفوعا، حينما تسقط عليه مسؤولية من "السماء" أن يحشو جيوبه، قبل فوات الأوان.


مصطفى حيران